سورة طه - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قرأ الجمهور: {أن يفرط} بفتح الياء وضم الراء، ومعنى ذلك: أننا نخاف أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، يقال: فرط منه أمر، أي بدر، ومنه الفارط، وهو الذي يتقدّم القوم إلى الماء، أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب، وهو المتقدّم فيه، كذا قال المبرد، وقال أيضاً: فرط منه أمر وأفرط: أسرف، وفرط: ترك. وقرأ ابن محيصن: {يفرط} بضم الياء وفتح الراء، أي يحمله حامل على التسرّع إلينا، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء، ومنهم ابن عباس ومجاهد، وعكرمة من الإفراط، أي يشتطّ في أذيتنا. قال الراجز:
قد أفرط العلج علينا وعجل ***
ومعنى {أَوْ أَن يطغى} قد تقدّم قريباً، وجملة: {قَالَ لاَ تَخَافَا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، نهى لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّنِى مَعَكُمَا} أي بالنصر لهما، والمعونة على فرعون، ومعنى {أَسْمَعُ وأرى}: إدراك ما يجري بينهما وبينه، بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية، وليس بغافل عنهما، ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار. {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} أرسلنا إليك {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل} أي خلّ عنهم وأطلقهم من الأسر {وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد: يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه، ثم أمرهما سبحانه أن يقولا لفرعون: {قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} قيل: هي العصا واليد. وقيل إن فرعون قال لهما: وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} أي السلامة. قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عزّ وجلّ ومن عذابه، وليس بتحية، قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. قال الفراء: السلام على من اتبع الهدى، ولمن اتبع الهدى سواء.
{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا} من جهة الله سبحانه: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} المراد بالعذاب: الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار. والمراد بالتكذيب: التكذيب بآيات الله وبرسله. والتولي: الإعراض عن قبولها والإيمان بها. {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} أي قال فرعون لهما: فمن ربكما؟ فأضاف الربّ إليهما ولم يضفه إلى نفسه؛ لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية. وخص موسى بالنداء لكونه؛ الأصل في الرسالة وقيل: لمطابقة رؤوس الآي. {قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ} أي: قال موسى مجيباً له، و{ربنا} مبتدأ، وخبره {الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ}، ويجوز أن يكون {ربنا} خبر مبتدأ محذوف، وما بعده صفته.
قرأ الجمهور: {خلقه} بسكون اللام، وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ: {خلقه} بفتح اللام على أنه فعل، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها نصير عن الكسائي. فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى. والمعنى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش، والرجل للمشي واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره.
وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديراً، ومنه قول الشاعر:
وله في كل شيء خِلْقُهُ *** وكذاك الله ما شاء فعل
وقال الفراء: المعنى خلق للرجل المرأة، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث. ويجوز أن يكون خلقه على القراءة الأولى هو المفعول الأوّل لأعطى، أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، ومعنى {ثُمَّ هدى}: أنه سبحانه هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، وأما على القراءة الآخرة، فيكون الفعل صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أي أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه، وعلى هذه القراءة يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه، فيوافق معناها معنى القراءة الأولى.
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى} لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف، ولا بدّ لهما من خالق وهادٍ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا ربّ غيره. قال فرعون: فما بال القرون الأولى؟ فإنها لم تقرّ بالربّ الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات، ومعنى البال: الحال والشان، أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل: إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة أي: ما حال القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى، فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} أي إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا. وعلى التفسير الأوّل يكون معنى {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي}: أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها، ومعنى كونها في كتاب: أنها مثبتة في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها، والتقدير: علم أعمالها عند ربي في كتاب.
وقد اختلف في معنى {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} على أقوال: الأوّل: أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين.
وقد تمّ الكلام عند قوله: {في كتاب} كذا قال الزجاج، قال: ومعنى {لاَّ يَضِلُّ}: لا يهلك من قوله: {أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض} [السجدة: 10] {وَلاَ يَنسَى} شيئاً من الأشياء، فقد نزّهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني: أن معنى {لاَّ يَضِلُّ}: لا يخطئ. القول الثالث: أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة. القول الرابع: أن المعنى: لا يحتاج إلى كتاب، ولا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى. ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي. القول الخامس: أن هاتين الجملتين صفة لكتاب، والمعنى: أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا} الموصول محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب على المدح. قرأ الكوفيون {مهداً} على أنه مصدر لفعل مقدّر، أي مهدها مهداً، أو على تقدير مضاف محذوف، أي ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش. وقرأ الباقون: {مهاداً} واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لاتفاقهم على قراءة: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} [النبأ: 6]. قال النحاس: والجمع أولى من المصدر؛ لأن هذا الموضع ليس وضع المصدر إلا على حذف المضاف. قيل: يجوز أن يكون مهاداً مفرداً كالفراش، ويجوز أن يكون جمعاً. ومعنى الهاد: الفراش، فالمهاد جمع المهد، أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} السلك: إدخال الشيء في الشيء. والمعنى: أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم. وفي الآية الأخرى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10].
ثم قال سبحانه ممتناً على عباده: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} هو ماء المطر. قيل: إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده هو: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} من كلام الله سبحانه. وقيل: هو من الكلام المحكيّ عن موسى معطوف على أنزل، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه إلى ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة. ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه: بأن الكلام كله محكيّ عن واحد هو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه والمعنى: فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجاً، أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة. وقوله: {من نبات} صفة ل {أزواجاً} أو بيان له، وكذا {شتى} صفة أخرى له، أي متفرّقة جمع شتيت.
وقال الأخفش: التقدير: أزواجاً شتى من نبات.
قال: وقد يكون النبات شتى، فيجوز أن يكون شتى {نعتاً} ل {أزواجاً} ويجوز أن يكون نعتاً للنبات، يقال: أمر شَتٌّ أي متفرّق، وشتّ الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق، واستشتّ مثله، والشتيت المتفرّق. قال رؤبة:
جاءت معاً وأطَّرقتْ شتيتاً ***
وجملة: {كُلُواْ وارعوا} في محل نصب على الحال بتقدير القول، أي قائلين لهم ذلك، والأمر للإباحة، يقال: رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرّحها يجيء لازماً ومتعدّياً. والإشارة بقوله: {إِنَّ فِى ذلك لآيات لأُوْلِى النهى} إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآيات، والنهى: العقول جمع نهية، وخص ذوي النهى؛ لأنهم الذين يُنتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح، وهذا كله من موسى، احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} والضمير في: {مِنْهَا خلقناكم} وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقاً. قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه. وقيل: المعنى أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم؛ لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه {وَفِيهَا} أي في الأرض {نُعِيدُكُمْ} بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرّق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض، وجاء بفي دون إلى؛ للدلالة على الاستقرار {وَمِنْهَا} أي من الأرض {نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام وردّ الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت، والتارة كالمرّة.
{وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا} أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها، والمراد بالآيات هي: الآيات التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات} [الإسراء: 101]. على أن الإضافة للعهد. وقيل: المراد: جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأوّل أولى، وقيل: المراد بالآيات: حجج الله سبحانه الدالة على توحيده. {فَكَذَّبَ وأبى} أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد؛ لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14]. وجملة: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات، أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبيّ يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض؛ لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرّر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير.
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم، أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر. {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} هو مصدر، أي وعداً. وقيل: اسم مكان، أي اجعل لنا يوماً معلوماً، أو مكاناً معلوماً لا نخلفه. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال: {لاَّ نُخْلِفُهُ} أي لا نخلف ذلك الوعد. والإخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع، وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج: {لاَّ نُخْلِفُهُ} بالجزم على أنه جواب لقوله: {اجعل}. وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعداً، أي لا نخلف ذلك الوعد {نَحْنُ وَلا أَنتَ} وفوّض تعيين الموعد إلى موسى؛ إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى. وانتصاب: {مَكَاناً سُوًى} بفعل مقدّر يدل عليه المصدر، أو على أنه بدل من موعد. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {سوى} بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين، لأنها اللغة العالية الفصيحة، والمراد: مكاناً مستوياً. وقيل: مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك. قال سيبويه: يقال: سِوًى وسُوًى، أي عدل، يعني عدلاً بين المكانين. قال زهير:
أرونا خطة لا ضيم فيها *** يسوّى بيننا فيها السواء
قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي:
وجدنا أبانا كان حلّ ببلدة *** سوّى بين قيس غيلان والفزر
والفزر: سعد بن زيد مناة. ثم واعده موسى بوقت معلوم فقال: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسديّ: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه.
وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء.
وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز. وقيل: يوم كسر الخليج. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص: {يوم الزينة} بالنصب، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم، وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى؛ لأن يوم الزينة يدلّ على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، أو على تقدير مضاف محذوف، أي موعدكم مكان يوم الزينة.
{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} معطوف على {يوم الزينة} فيكون في محل رفع، أو على {الزينة} فيكون في محل جرّ، يعني ضحى ذلك اليوم. والمراد بالناس: أهل مصر. والمعنى: يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون في أمر موسى وفرعون. قال الفراء: المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد.
قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم. والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى، وهو حين تشرق الشمس. وخص الضحى؛ لأنه أوّل النهار، فإذا امتدّ الأمر بينهما كان في النهار متسع. وقرأ ابن مسعود والجحدري: {وأن يحشر} على البناء للفاعل، أي وأن يحشر الله الناس ضحى.
وروي عن الجحدري أنه قرأ: {وأن نحشر} بالنون وقرأ بعض القرّاء بالتاء الفوقية، أي وأن تحشر أنت يا فرعون، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء للمفعول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إننا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قال: يعجل {أَوْ أَن يطغى} قال: يعتدي.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {أَسْمَعُ وأرى} قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به، فأوحي إليكما فتجاوبانه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: ربّ أي شيء أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعمش: تفسير ذلك الحيّ قبل كل شيء، والحيّ بعد كل شيء. وجوّد السيوطي إسناده، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {على مَن كَذَّبَ وتولى} قال: كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ} قال: خلق لكل شيء زوجه {ثُمَّ هدى} قال: هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي} قال: لا يخطئ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مّن نبات شتى} قال: مختلف. وفي قوله: {لأُوْلِي النهى} قال: لأولي التقى.
وأخرج ابن المنذر عنه {لأُوْلِي النهى} قال: لأولي الحجا والعقل.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله: {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: لما وضعت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله» وفي حديث في السنن: «نه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: {مِنْهَا خلقناكم} ثم أخرى وقال: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} ثم أخرى وقال: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}».
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} قال: يوم عاشوراء.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه.


قوله: {فتولى فِرْعَوْنُ} أي انصرف من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعدوا عليه وقيل: معنى: تولى أعرض عن الحق، والأوّل أولى {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته. والمراد: أنه جمع السحرة. قيل: كانوا اثنين وسبعين. وقيل: أربعمائة. وقيل: اثنا عشر ألفاً. وقيل: أربعة عشر ألفاً.
وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً {ثُمَّ أتى} أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه، وجملة {قَالَ لَهُمْ موسى} مستأنفة جواب سؤال مقدّر {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} دعا عليهم بالويل، ونهاهم عن افتراء الكذب. قال الزجاج: هو منصوب بمحذوف، والتقدير: ألزمهم الله ويلاً. قال: ويجوز أن يكون نداء، كقوله: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [ياس: 52]. {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} السحت: الاستئصال، يقال: سحت وأسحت بمعنى، وأصله استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون إلا شعبة: {فيسحتكم} بضم حرف المضارعة من أسحت، وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بفتحه من سحت، وهي لغة الحجاز، وانتصابه على أنه جواب للنهي {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي: خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله أي: كذب كان {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي السحرة لما سمعوا كلام موسى، تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي من موسى، وكانت نجواهم هي قولهم: {إِنْ هاذان لساحران}. وقيل: إنهم تناجوا فيما بينهم فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وقيل: الذي أسروه: أنه إذا غلبهم اتبعوه، قاله الفرّاء والزجاج. وقيل: الذي أسروه: أنهم لما سمعوا قول موسى: {ويلكم لا تفتروا على الله} قالوا: ما هذا بقول ساحر. والنجوى: المناجاة يكون اسماً ومصدراً.
قرأ أبو عمرو: {إن هذين لساحران} بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن عملها المعروف، وهو نصب الاسم ورفع الخبر. ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما حكاه النحاس، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه: {إن هذان} بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب. وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدّد النون من هذان. وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر: {إنّ هذان} بتشديد إن وبالألف، فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر.
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف، ومنه قول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى *** مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وقول الآخر:
تزوّد منا بين أذناه ضربة ***
وقول الآخر:
إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء: إن هذه القراءة على لغة بني الحارث بن كعب وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة.
وحكى غيره أنها لغة خثعم. وقيل: إن {إن} بمعنى نعم ها هنا، كما حكاه الكسائي عن عاصم، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس: رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه، فيكون التقدير: نعم هذان لساحران، ومنه قول الشاعر:
ليت شعري هل للمحبّ شفاء *** من جوى حبهنّ إنّ اللقاء
أي نعم اللقاء. قال الزجاج: والمعنى في الآية: أن هذا لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني، وقيل: إن الألف في {هذان} مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. وقيل: إن الهاء مقدّرة، أي إنه هذان لساحران، حكاه الزجاج عن قدماء النحويين، وكذا حكاه ابن الأنباري.
وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال: هذا بالألف في الرفع والنصب والجرّ على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجيها تصح به وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف.
{يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} وهي أرض مصر {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال الكسائي: بطريقتكم: بسنّتكم. و{المثلى} نعت، كقولك: امرأة كبرى، تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى، يعنون: على الهدى المستقيم. قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم، والمثلى تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال: فلان أمثل قومه، أي أفضلهم، وهم الأماثل. والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الي هو أمثل المذاهب.
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} الإجماع: الإحكام، والعزم على الشيء قاله الفراء. تقول: أجمعت على الخروج مثل أزمعت.
وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه.
وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال النحاس: وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس.
{ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم، وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال أبو عبيدة: الصف: موضع المجمع ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف بمعنى: أتيت المصلى، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب {صفاً} على الحال، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون، فيكون على هذا مصدراً في موضع الحال، ولذلك لم يجمع. وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفاً {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} أي من غلب، يقال: استعلى عليه: إذا غلبه، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.
وجملة: {قَالُواْ موسى إَمَا أَن تُلْقِيَ} مستأنفة جواباً لسؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا يا موسى، إما أن تلقي، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر، أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا، ومفعول تلقي محذوف، والتقدير: إما أن تلقي ما تلقيه أوّلاً {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ} نحن {أَوَّلَ مَنْ ألقى} ما يلقيه، أو أوّل من يفعل الإلقاء. والمراد: إلقاء العصيّ على الأرض، وكانت السحرة معهم عصيّ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، فقال لهم موسى {بَلْ أَلْقُواْ} أمرهم بالإلقاء أوّلاً؛ لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} في الكلام حذف، والتقدير: فألقوا فإذا حبالهم، والفاء فصيحة، وإذا للمفاجأة أو ظرفية. والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت أن {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} سعي حبالهم وعصيهم، وقرأ الحسن {عصيهم} بضم العين وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بكسرها اتباعاً لكسرة الصاد، وقرأ ابن عباس، وابن ذكوان وروح عن يعقوب: {تخيل} بالمثناة؛ لأن العصيّ والحبال مؤنثة، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما أصابها حرّ الشمس ارتعشت واهتزّت، وقرئ: {نخيل} بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ: {يخيل} بالياء التحتية مبنياً للفاعل، على أن المخيل هو الكيد. وقيل: المخيل هو أنها تسعى، فأن في موضع رفع، أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج.
وقال الفراء: إنها في موضع نصب، أي بأنها ثم حذف الباء. قال الزجاج: ومن قرأ بالتاء: يعني: الفوقية جعل أنّ في موضع نصب، أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلاً من الضمير في تخيل، وهو عائد على الحبال والعصيّ، والبدل فيه بدل اشتمال، يقال: خيل إليه: إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبهة.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أحسّ. وقيل: وجد. وقيل: أضمر. وقيل: خاف، وذلك لما يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشّره به بقوله: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى} أي: المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، وجزم {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} على أنه جواب الأمر، قرئ بتشديد القاف، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين، وقرئ: {تلقف} بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ: {تلقف} بالرفع على تقدير فإنها تتلقف، ومعنى {مَا صَنَعُواْ}: الذي صنعوه من الحبال والعصيّ. قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة، وجملة {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} تعليل لقوله: {تلقف} وارتفاع كيد على أنه خبر لإن، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصماً. وقرأ هؤلاء: {ساحر} بكسر السين وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون: {كيد ساحر} {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه، وهذا من تمام التعليل {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} أي فألقي ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا السحرة سجداً لله تعالى، وقد مرّ تحقيق هذا في سورة الأعراف. {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} إنما قدّم هارون على موسى في حكاية كلامهم؛ رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} قال: يهلككم. أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {فَيُسْحِتَكُم} قال: يستأصلكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: فيذبحكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يقول: أمثلكم، وهم بنو إسرائيل.
وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} ما يأفكون، عن قتادة قال: ألقاها موسى فتحوّلت حية تأكل حبالهم وما صنعوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة؛ أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من ربّ العالمين فإنه لا طاقة لنا بربّ العالمين، فلما كان من أمرهم أن خرّوا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون فعندها {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} إلى قوله: {والله خَيْرٌ وأبقى}.


قوله: {قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ} يقال: آمن له وآمن به، فمن الأوّل: قوله: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، ومن الثاني: قوله في الأعراف: {ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذن لكم} [الأعراف: 123]. وقيل: إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع. وقرئ على الاستفهام التوبيخي، أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إن موسى لكبيركم، أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدلّ عليه قوله: {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري.
وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال الواحدي: والكبير في اللغة: الرئيس، ولهذا يقال للمعلم: الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيساً لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة {فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي: والله لأفعلنّ بكم ذلك. والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، و{من} للابتداء {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي على جذوعها كقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة *** فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وإنما آثر كلمة {في} للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أراد: لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذاباً لكم أم موسى؟ ومعنى {أبقى}: أدوم، وهو يريد بكلامه هذا: الاستهزاء بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد: العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا. وقيل: أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف.
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا. وقيل: إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة {والذي فَطَرَنَا} معطوف على {ما جاءنا} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا، أي خلقنا. وقيل هو قسم، أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم: {لأقطعنّ} إلخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية و{ما} كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} التي سلفت منا من الكفر وغيره {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} معطوف على {خطايانا} أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل: هي نافية، قال النحاس: والأوّل أولى. قيل: ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدّر، أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا {والله خَيْرٌ وأبقى} أي خير منك ثواباً وأبقى منك عقاباً، وهذا جواب قوله: {ولتعلمنّ أينا أشدّ عذاباً وأبقى}. {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى {لا يموت فيها ولا يحيى}: أنه لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حال الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حيّ ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي *** شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة. وقيل: هو ابتداء كلام. والضمير في: {إنه} على هذا الوجه للشأن {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي ومن يأت ربه مصدّقاً به قد عمل الصالحات، أي الطاعات، والموصوف محذوف، والتقدير: الأعمال الصالحات، وجملة: {قد عمل} في محل نصب على الحال وهكذا {مؤمناً} منتصب على الحال، والإشارة ب {أولئك} إلى من باعتبار معناه {لَهُمُ الدرجات العلى} أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات {جنات عَدْنٍ} بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن: الإقامة، وقد تقدّم بيانه، وجملة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات؛ لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق. وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال من ضمير الجماعة في لهم، أي ماكثين دائمين، والإشارة {ذلك} إلى ما تقدّم لهم من الأجر، وهو مبتدأ، و{جَزَاء مَن تزكى} خبره، أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَما، قال: علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض.
قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {والله خَيْرٌ وأبقى} قال: خير منك إن أطيع، وأبقى منك عذاباً إن عصى.
وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له: الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل».
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما»، وفي الصحيحين بلفظ: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء».

1 | 2 | 3 | 4